أعاد الإشكال الذي حصل في منطقة القرنة السوداء الأسبوع الماضي تسليط الضوء على مجمل قضية الحدود ما بين العقارات والقرى والبلدات في لبنان، وأثار الدعوات من كل حدب وصوب الى "ترسيم الحدود" أو مسح الأراضي والعقارات وتحديدها، إذ إن مسح الأراضي وتخطيطها وتصنيفها وتحديدها عمليات متأخرة بل متوقفة منذ زمن بعيد بسبب تقاعس مؤسسات الدولة عن القيام بواجبها، وربما تُرك الامر للافادة منه في اثارة النزاعات واجراء المصالحات. وقد تم نقل بلدات وقرى من قضاء الى آخر لغايات ومصالح انتخابية غير مرة، ما جعل التداخل اكبر. وهذا ما يولّد مشكلات تؤدي الى "تقاتل أخوي" غالباً ما تسيل فيه الدماء.
اعرف أنه في إحدى البلدات القريبة من مسقطي في البقاع، لا يزال السند العقاري يتضمن الآتي: 50 في المئة من عقارات تلك البلدة لإحدى العائلات التي كانت إقطاعية في زمن مضى، و50 في المئة من المساحة لعموم أهالي البلدة. وهذا التقسيم جعل الأرض كلها مشاعاً، إذ كيف يمكن تحديد الـ50 في المئة الأولى مثلاً، ثم كيف يمكن القسمة ما بين الأهالي في الجزء الثاني من البلدة. وعليه فإن فوضى العمران تسود منذ زمن بعيد، ويختلف الأهالي على تقسيمات اتفقوا عليها في ما بينهم من دون أي مسوّغ قانوني يسمح لهم بتسجيل أملاكهم وتوريثها أو بيعها من الغير. وقد ضاعت مع الزمن الملكية الاقطاعية ما بين الورثة، ولم توفر الدولة حلاً منصفاً لهؤلاء وأولئك.
والمشكلات العقارية برزت في غير منطقة، ولا تزال قضية لاسا ماثلة، إذ رغم كل محاولات الحل ما بين البطريركية المارونية و"حزب الله"، لم تجد القضية طريقها الى التسوية النهائية كأنه يراد لها ان تبقى عالقة، وتُستعمل ورقة ضغط وابتزاز.
ومثلها قضية العاقورة - اليمونة التي تخبو لتستيقظ من وقت الى آخر ما يستدعي تدخّل الجيش للفصل وتهدئة الاهالي منعاً للصدام ليس اكثر، وأيضاً القبيات - الهرمل، وفنيدق - عكار العتيقة، وأخيراً بشري - الضنية التي تستمر محاولات إطفائها.
وقد أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن لجنة لدرس مسألة النزاعات بين الحدود العقارية والنزاعات على المياه في أكثر من منطقة، بتاريخ 3 تموز الجاري، قبل أن يجمّد عملها في اليوم التالي تحت ضغط الاعتراضات عليها والتشكيك في قانونيتها.
والمشكلة تتعدى العقارات، الى حدود الطوائف في ما بينها، إذ غالباً ما تتخذ التعقيدات والمواجهات أبعاداً مذهبية تهدد السلم الأهلي الذي إذا ما انفرط عقده يطيح كل العقارات والحدود والبشر، بل إنه يولّد حواجز وحدوداً مصطنعة بين اللبنانيين والمناطق كما معابر زمن الحرب الأهلية.
وهذه القضية المعقدة تفتح الباب على طرح ملف آخر، يتعلق بالفيديرالية، وحدود تلك الفيديراليات في ضوء المصالح أولاً، والتوزع الديموغرافي - الطائفي ثانياً.
وأتوقف هنا عند تساؤل طرحه سابقاً الرئيس ميشال سليمان وفيه: "إذا لم نتفق على ترسيم الحدود والحقوق العقارية والمائية في العاقورة واليمونة والقرنة السوداء ولاسا وعكار وتنورين ورميش وغيرها، فكيف لنا أن نتفق على ترسيم حدود المناطق الفيديرالية المزعومة خلافاً للنظام السياسي المنصوص عنه في الطائف؟".
هذا التساؤل الحقّ، يفتح باب النقاش حول امكانية تطبيق الفيديرالية، أو إصلاح النظام القائم عبر تطبيق الطائف واعتماد اللامركزية الادارية الموسعة.